بين تعاريج جبال الريف وهدوء دواوير إقليم العرائش، حيث الطبيعة ما تزال على فطرتها الأولى، دون روتوش الحياة العصرية، حللتُ ضيفاً على مهرجان “ماطا” الدولي للفروسية، الذي اختار منظموه منذ سنوات أن يجعلوا من مدشر بني زنييد بجماعة أربعاء عياشة موطنًا دائمًا له، في تحدٍ جميل لمركزية التظاهرات وازدواجية التنمية. وهنا، في هذا الركن المتواضع من المملكة، بدا لي أن “ماطا” ليست فقط مهرجاناً، بل قصة حب بين الأرض والفرس والإنسان.
منذ الوهلة الأولى، شعرت أنني أمام حدث يختلف عن سواه. مهرجان لا يحمل الطابع الفلكلوري السطحي، بل ينبض بحياة الناس، ويُحاكي نبض يومياتهم وقيمهم وعاداتهم. لوهلة، بدا لي أن “ماطا” كُتبت لهذا المكان، وأن هذا المكان خلق ليحتضنها.
اختيار مدشر بني زنييد كمقر دائم لهذه التظاهرة، لم يكن اختياراً عفوياً أو قراراً عابراً. فلو شاء المنظمون، لاحتضنوا الفعالية في العرائش أو أصيلة، حيث الفنادق والخدمات، لكنهم آثروا أن يُنظم المهرجان هنا، وسط ساكنة جبالة، ليبعثوا برسالة رمزية وقوية، مفادها أن الكرامة الثقافية لا ترتبط بالبنية التحتية فقط، بل أيضاً بحق الناس في أن تُروى حكاياتهم من داخل قراهم.
كان لضيوف المهرجان أن يتحملوا عناء التنقل جوا وبرا عبر تضاريس متنوعة، لكن المشقة كانت تذوب مع حفاوة الاستقبال وطيبوبة الوجوه الجبلية التي لا تعرف تصنع المدن.
من بين أبرز محطات المهرجان، كان معرض المنتوجات التقليدية الذي حوّل فضاء بني زنييد إلى لوحة فسيفسائية مذهلة، جمعت بين ثقافات مختلفة من ربوع المملكة وخارجها. من الصحراء إلى جبال الأطلس وسهول سوس، ومن الشمال الشرقي إلى قلب إفريقيا، التقت الألوان والأقمشة والتوابل والصناعات اليدوية لتعكس ثراء هذا الوطن وتنوعه وجواره دون حدود.
لقد شكّل هذا المعرض محجاً حقيقياً لساكنة المنطقة، وفرصة نادرة للتعرف على عوالم أخرى، ربما لم تطأها أقدامهم، لكنها كانت حاضرة أمامهم من خلال الرواق والمنتوج والصانع. وكان الإقبال اللافت عليه دليلاً على تعطش الناس للثقافة والتبادل، وعلى حاجة العالم القروي إلى منصات الانفتاح والاكتشاف.
طوال جولتي في الفضاءات المخصصة للمهرجان، من معرض المنتوجات التقليدية وساحات الفرسان إلى المنصات الثقافية إلى الورشات التربوية والدينية، كان هناك خيط ناظم يجمع كل شيء. الاعتزاز بالانتماء، والتمسك بالهوية، والكرم الذي يُقدم دون مقابل.
التقيت نساء يُزغردن بحماسة يحتفلن بالفرسان من أبناء قبيلتهن، وأطفال يركضون خلف الخيول بشغف بريء، ورجالاً يسردون حكايا “ماطا” كما لو كانت أسطورة موروثة. هنا، لا فرق بين الضيف وابن الدوار، الكل واحد، في حضرة الفرس وتاريخ الأرض.
وراء هذا النجاح، تقف الجمعية العلمية العروسية للعمل الاجتماعي والثقافي، بكل ما تحمله من صدق الالتزام وعمق الرؤية. ويتقدمها أبناء الراحل عبد الهادي بركة، نقيب الشرفاء العلميين، الذين واصلوا مسيرة والدهم في خدمة الصالح العام، وحملوا على عاتقهم مشعل الحفاظ على الموروث الثقافي والروحي للمنطقة.
هؤلاء الأبناء، وفي مقدمتهم نبيل بركة، برهنوا أن الوفاء للإرث لا يكون بالكلام، بل بالفعل الميداني، فمهرجان ماطا لم يكن ليرى النور بهذا الزخم لولا عزيمتهم الصادقة، ومبادراتهم الخلاقة، وإيمانهم بأن الفروسية ليست عرضًا، بل لغة من لغات التاريخ والانتماء.
وقد استطاعوا، رفقة فريقهم في الجمعية، أن يجعلوا من هذا المهرجان منصة إشعاع حقيقية، تربط الماضي بالحاضر، وتُثبت أن العائلات العريقة لا تحتكر المجد، بل تُشرك فيه الجميع.
اليوم ونحن في ختام هذا الحدث الجميل، اشعر أني كنت في حضرة درس بليغ، في التاريخ والجغرافيا والإنسان. مهرجان “ماطا” لم يُنظم فقط من أجل الاحتفال، بل من أجل التذكير بأن المغرب العميق لا ينقصه سوى الإنصات.
كل التحية لأبناء عبد الهادي بركة، ولجمعيتهم العلمية العروسية للعمل الاجتماعي والثقافي، ولأبناء جبالة الذين أثبتوا مرة أخرى أن القرى قادرة على صناعة التظاهرات الكبرى، حين يكون وراءها رجال ونساء يؤمنون بقيمهم وبترابهم وبأصالة انتمائهم.